فصل: (مسألة: اغتناء من عجل له الزكاة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: تبيين الزكاة المعجلة]

إذا عجل الزكاة إلى الفقير، فمات الفقير قبل الحول.. خرج عن أن يكون من أهل الزكاة، فإن لم يبين رب المال عند الدفع أنها زكاة معجلة.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأن الظاهر أنه متطوع بها، وإن بين أنها المعجلة.. رجع. فالزكاة المعجلة تتردد عندنا بين أن تقع موقع الزكاة، وبين أن تسترد.
وقال أبو حنيفة: (لا يسترجعها، وتكون نافلة). فالزكاة المعجلة عنده تتردد بين أن تقع موقع الزكاة، وبين أن تكون نافلة.
دليلنا: أن المدفوع إليه خرج عن أن يكون من أهل الزكاة، فثبت له الاسترجاع.
فإذا ثبت له الرجوع.. نظرت:
فإن كان المدفوع ذهبًا أو فضة.. ضمه إلى ما عنده في إكمال النصاب؛ لأنه كالباقي على ملكه، بدليل: أنه يجزئ عما وجب عليه عند الحول.
وإن كان حيوانًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يضم إلى ما عنده في إكمال النصاب؛ لما ذكرناه في الذهب والفضة.
والثاني: لا يضم؛ لأن الفقير لما مات.. صار ذلك دينًا في ذمته، والحيوان إذا كان دينًا.. لا تجب فيه الزكاة؛ لأن السوم معتبر فيه، وذلك معدوم فيما في الذمة، بخلاف الذهب والفضة.

.[مسألة: اغتناء من عجل له الزكاة]

وإن عجل زكاته إلى فقير، فاستغنى الفقير المدفوع إليه قبل الحول.. نظرت:
فإن استغنى بالذي دفع إليه.. جاز؛ لأنه إنما دفع إليه ليستغني به، ولأنه لو استرجعه منه؛ لعاد فقيرًا، وجاز الدفع إليه من الزكاة، فلا يفيد الاسترجاع.
وإن استغنى بغير الذي دفع إليه.. لم يجزه المدفوع عن الزكاة؛ لأنه قد خرج عن أن يكون من أهل الزكاة، فإن بين رب المال أنها معجلة.. استرجع منه، وإن لم يبين.. لم يسترجع منه.
وإن عجل الزكاة إلى فقير، فاستغنى في أثناء الحول من غير ما دفع إليه، ثم افتقر، فحال الحول، وهو فقير.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئ المدفوع عن الزكاة؛ لأن المدفوع إليه عند الدفع وعند الوجوب من أهل الزكاة، فلا يضر ما بينهما.
والثاني: لا يجزئ المدفوع عن الزكاة، ويجوز له الاسترجاع إذا بين أنها معجلة؛ لأن المسكين قد طرأ عليه حال خرج فيها عن أن يكون من أهل الزكاة. قال الشيخ أبو حامد: والأول أشبه بكلام الشافعي.
وإن عجل زكاته إلى موسر، فحال الحول، وهو فقير.. لم يجزه المدفوع عن الزكاة؛ لأن تعجيل الزكاة إنما جاز ليرتفق بها المساكين، ولا رفق في تعجيلها إلى موسر.. فلم يجز.

.[مسألة: ضمان الوالي للزكاة]

إذا قبض الوالي الزكاة المعجلة من رب المال، فتلفت في يده قبل تسليمها إلى المسكين.. نظرت:
فإن كان أخذها بسؤال رب المال.. تلفت من ضمانه؛ لأن الإمام نائب عنه في الدفع، وعليه أن يخرج الزكاة ثانيًا، فإن كان الإمام قد فرط في حفظها.. وجب عليه ضمان ما قبض لتفريطه، وإن لم يفرط.. فلا ضمان عليه.
وإن قبضها الإمام بغير سؤال من رب المال، ولا من المساكين، فتلفت في يده بتفريط أو بغير تفريط.. وجب عليه الضمان.
وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الضمان).
دليلنا: أن أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم، فإذا قبض مالهم بغير إذنهم..
وجب عليه الضمان، كالأب إذا قبض مال ابنه الكبير الذي لا ولاية له عليه، بغير إذنه، فتلف في يده.
وإن قبضها الإمام بسؤال المساكين، فتلفت في يده.. تلفت من ضمان المساكين؛ لأن الإمام نائب عنهم، فصار كالوكيل إذا قبض مال موكله، وتلف في يده.
فعلى هذا: يجزئ المدفوع عن الزكاة عند الحول، كما لو قبضها المساكين، فتلفت في أيديهم.
وإن رأى الإمام بالمساكين حاجة، ورأى من المصلحة أن يتسلف لهم الزكاة، فقبضها، وتلفت في يده بغير تفريط.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو المشهور -: أن عليه الضمان، كما لو لم يكن بهم حاجة.
والثاني: لا ضمان عليه؛ لأن حاجتهم بمنزلة ما لو سألوا أن يتسلف لهم.
وإن قبضها الوالي بمسألة رب المال والمساكين، وتلفت في يده بغير تفريط.. ففيه وجهان:
أحدهما: تتلف من ضمان المساكين، وهو الأصح؛ لأنه قبضها لهم بإذنهم.
والثاني: تتلف من ضمان رب المال؛ لأنه أقوى جنبة، بدليل: أنه يملك المنع والدفع.

.[فرع: زكاة الميت تقع عن وارثه]

وإن عجل زكاة ماله، ثم مات في أثناء الحول:
فإن قلنا بقوله القديم: (وأن الوارث يبني على حول المورث).. أجزأتهم المعجلة عند حؤول الحول.
وإن قلنا بقوله الجديد - وهو الصحيح -: (إن الوارث لا يبني على حول المورث).. فهل تجزئهم الزكاة المعجلة؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو المنصوص -: (أنها تجزئهم)؛ لأنهم يقومون مقامه فيما له وما عليه.
والثاني: لا تجزئهم؛ لأنه تعجيل زكاة قبل ملك النصاب.
فإن قلنا بهذا: فإن كان قد شرط مورثهم أنها زكاة معجلة.. رجعوا بها، وإن لم يشترط ذلك.. لم يرجعوا؛ لأن الظاهر أنها زكاة واجبة عليه، أو صدقة تطوع.
وإن قلنا بقوله القديم، أو بالمنصوص على الجديد.. نظرت:
فإن كانت حصة كل واحد منهم نصابا.. أجزأت المعجلة عنهم على حسب مواريثهم، سواء اقتسموا قبل الحول، أو لم يقتسموا.
وإن كانت حصة كل واحد منهم دون النصاب: فإن اقتسموا المال قبل الحول.. فلا زكاة عليهم، وكان لهم استرجاعها إن بين مورثهم عند الدفع أنها معجلة.
وإن لم يقتسموا المال حتى حال الحول: فإن كان المال ماشية.. أجزأتهم المعجلة عند الحول. وإن كان غير الماشية:
فإن قلنا: تصح الخلطة في غير الماشية.. وجبت عليهم الزكاة عند الحول، وأجزأتهم المعجلة عند الحول.
وإن قلنا: لا تصح الخلطة في غير الماشية.. لم تجب عليهم الزكاة عند الحول، والكلام في الاسترجاع على ما مضى.

.[مسألة: تقديم العشور]

وهل يصح تقديم العشر قبل الوجوب؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يصح، وهو اختيار الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق؛ لأن وجوب العشر يتعلق بسبب واحد، وهو اشتداد الحب وبدو الصلاح في الثمرة، فإذا أخرج الزكاة قبل ذلك.. فقد أخرجها قبل وجود سببها.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يصح، واختاره ابن الصباغ؛ لأن زكاته تتعلق بسببين: وجود الزرع، وإدراكه، والإدراك بمنزلة حؤول الحول، فجاز تقديمها عليه، ولأن تعلق الوجوب بالإدراك لا يمنع تقديم الزكاة عليه.
ألا ترى أن زكاة الفطر يجوز تقديمها على هلال شوال وإن كان الوجوب متعلقا به.
إذا ثبت هذا: فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: يجوز تقديم العشر عنده إذا صار الزرع قصيلا ظهر فيه السنبل أو لم يظهر، وإذا صار التمر بلحا إذا علم أنه يجيء منه النصاب. وبالله التوفيق.

.[باب قسم الصدقات]

والأموال على ضربين: ظاهرة، وباطنة:
فأما الباطنة: فهي الدراهم والدنانير، والركاز، وعروض التجارة، فيجوز لرب المال أن يفرق زكاتها بنفسه.
قال المحاملي: وهو إجماع، ويجوز أن يوكل من يخرج زكاتها، كما يجوز أن يوكل من يقضي عنه الدين، ويجوز أن يدفعها إلى الإمام؛ لأنه نائب عن أهل الصدقات.
وتفرقته بنفسه أفضل من دفعها إلى وكيله؛ لأنه على ثقة من تفرقته بنفسه، وعلى شك من تفرقة الوكيل.
وأما الأموال الظاهرة: فهي المواشي، والثمار، والزروع، وزكاة المعدن.
وفي زكاة الفطر وجهان:
أحدهما: أنها من الأموال الباطنة، فيكون حكمها ما ذكرناه.
والثاني: أنها من الأموال الظاهرة، وفي زكاة الأموال الظاهرة قولان:
الأول: قال في القديم: (يجب دفعها إلى الإمام أو النائب عنه، فإن فرقها بنفسه.. أعاد). وبه قال مالك، وأبو حنيفة - رحمة الله عليهما - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية [التوبة: 103]، ولأنه مال للإمام ولاية المطالبة فيه، فوجب دفعه إليه، كالجزية والخراج.
والثاني: قال في الجديد: (يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه). وهو الصحيح؛ لأنها زكاة، فجاز لرب المال أن يفرقها بنفسه، كالأموال الباطنة.
فإذا قلنا بهذا: فهل الأفضل أن يفرق زكاتها وزكاة الأموال الباطنة بنفسه، أو يدفعها إلى الإمام؟ اختلف في ذلك أصحابنا:
فمنهم من قال: تفرقته بنفسه أفضل؛ لأنه على يقين من تفرقة نفسه، وعلى شك من تفرقة غيره.
ومنهم من قال: دفعها إلى الإمام أفضل، عادلًا كان أو جائرًا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيكون بعدي أمور تنكرونها، فقالوا: ما نصنع؟ فقال: أدوا حقوقهم، واسألوا الله حقكم».
وروى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: أتيت سعد بن أبي وقاص، فقلت: عندي مال أريد أن أخرج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى، فقال: (ادفعها إليهم) فأتيت ابن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فكلهم قال مثل ذلك.
ولأن دفعه إلى الإمام يجزئه بلا خلاف، وتفرقته بنفسه مختلف فيه في إجزائه عنه، ولأن الإمام أعرف بحاجة المساكين.
ومن أصحابنا من قال: إن كان الإمام عادلًا.. فالدفع إليه أفضل؛ لأنه على يقين من أدائه إليه، وإن كان جائرًا.. فتفرقته بنفسه أفضل؛ لأنه ليس على يقين من أدائه.

.[مسألة: بعث السعاة]

. مسألة: في بعث السعاةوعلى الإمام أن يبعث السعاة لقبض صدقة الثمار والزروع في الوقت الذي يوافي جداد الثمرة، وحصاد الزرع، ويبعث معهم من يخرص الثمار؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدين بعده كانوا يبعثون السعاة لقبض الصدقات.

ولا يبعث إلا حرًا، عدلًا، فقيهًا؛ لأن العبد والفاسق ليسا من أهل الولاية، والفقيه أعلم بما يأخذ.
وهل يجوز أن يكون هاشميًا أو مطلبيًا؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين فيما يأخذه العامل، هل هو أجرة أو زكاة؟
فإن قلنا: إنه زكاة.. لم يجز؛ لأن الزكاة لا تحل لهم.
وإن قلنا: إنه أجرة.. جاز، كما يجوز استئجارهم على سائر الأعمال.
قال ابن الصباغ: فأما إذا تبرع الهاشمي أو المطلبي لقبض الصدقة من غير عوض يأخذه، أو دفع إليه الإمام الأجرة من بيت المال.. فيجوز أن يكون هاشميا أو مطلبيا وجهًا واحدا.
وأما مواليهم: فإن قلنا: يجوز للهاشمي والمطلبي أن يأخذ من الصدقة لكونه عاملا.. فمواليهم أولى بالجواز. وإن قلنا: لا يجوز للهاشمي والمطلبي.. ففي مواليهم وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موالي القوم من أنفسهم».
والثاني: يجوز؛ لأنهم لا يلحقون بشرف مواليهم.

.[فرع: عطاء جابي الزكاة]

وإذا أراد الإمام بعث العامل.. فهو بالخيار بين أن يستأجره بأجرة معلومة، ويعطيه ذلك من الزكاة، وبين أن يجعل له جعلا، فإذا فرغ من العمل.. أعطاه جعله من سهم العامل في الزكاة.
ويبعث الإمام العامل لقبض زكاة غير الثمار والزروع في المحرم؛ لما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في المحرم: (هذا شهر زكاتكم)، ولأنه أول السنة العربية، فكان البعث فيه أولى.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستحب أن يخرج قبل المحرم بأيام؛ ليكون مع أول المحرم قد وصل إلى أرباب الأموال، وعرف عدد أهل السهمان، وقدر حاجتهم.. فلا يحتاج أن يشتغل بذلك في المحرم).
وإذا أراد الساعي أن يعد الماشية، فإن كانت تأكل الكلأ، وترد الماء.. فإن الساعي يعدها على الماء؛ لأنه لا يكلف الساعي أن يتبعها المرعى، ولا يكلف رب المال ردها إلى فناء داره، فكان عدها على الماء أولى؛ لأن المشقة تزول عنهما بذلك.
وإن كانت الماشية تجتزئ بالحشيش الرطب عن الماء.. فإن الساعي يعدها في المساكن والموضع الذي تروح إليه ليلًا؛ لما روى عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم وأفنيتهم».
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب، ولا جنب».
فقيل: معنى قوله: " لا جلب " أي: لا يجب على أرباب المواشي جلبها إلى الساعي، حيث كان ليعدها.
ومعنى: " لا جنب " أي: لا يبعدونها عنهم.
وقيل إنما أراد بذلك في السبق، أي: لا يجلب على خيل السباق، بضرب الشيء اليابس، والصياح يستحث بذلك الفرس، و" لا جنب " أي: لا يكون له جنب في السباق.
وأما كيفية العد: فهو أن يضطر الماشية إلى جدار وجبل، حتى لا يكون لها إلا طريق ضيق ما تمر به شاة أو شاتان، ويزجرها من خلفها آخر، وبيد العاد عصا يعدها، حتى يأتي على آخرها.
فإن عدها وادعى أنه أخطأ.. أعاد. وإن كان رب المال ثقة، فأخبره بعددها.. جاز قبول قوله. وإن أبدل له رب المال الزكاة.. أخذها منه.
والمستحب: أن يدعو له؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، أي: ادع لهم.
والمستحب: أن يقول: اللهم صل على آل فلان؛ لما روي: «أن أبا أوفى حمل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة ماله، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم صل على آل أبي أوفى».
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورا). وبأي شيء دعا له.. جاز، وإن ترك الدعاء جاز.
وقال داود وأهل الظاهر: (يجب الدعاء).
دليلنا: ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم». ولم يأمره بالدعاء.
قال الشيخ أبو حامد: فإن دفع رب المال الصدقة إلى المسكين.. لم يستحب أن يدعو له؛ لأن ذلك إنما يستحب للساعي دون غيره.

.[مسألة: غلول الصدقة]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن غل صدقته.. عزر إن كان الإمام عدلا، إلا أن يدعي الجهالة، فلا يعزر). وهذا كما قال: المنع في الزكاة هو أن يمنع من دفعها.
و (الغل) في الزكاة: هو أن يخفي رب المال شيئا من ماشيته، حتى لا يراها الساعي، فإن أظهر عليه الساعي، فإن كان رب المال جاهلا بتحريم ذلك، مثل: أن كان حديث عهد بالإسلام.. فإنه يأخذ منه الزكاة، وينهاه ألا يعود إلى ذلك، فإن عاد إليه ثانيا.. عزره.
وإن لم يدع الجهالة، أو ادعى ولكن هو ممن لا يخفى عليه ذلك، مثل: أن يكون مجالسا للعلماء، أو نشأ في دار الإسلام، فإن كان الإمام جائرا يأخذ أكثر من حقه، أو يضعها في غير موضعها.. لم يعزره؛ لأن غله بتأويل.
فإذا أخذ هذا الإمام الزكاة منه.. فاختلف أصحابنا فيه:
فذهب أكثرهم: إلى أنه تسقط عنه الزكاة، وقد نص الشافعي: (أن الخوارج إذا غلبوا وأخذوا الصدقات.. أجزت).
وحكى الجويني عن بعض أصحابنا أنها لا تجزئه وذكر في "الفروع": هل يسقط الفرض عنه فيما بينه وبين الله عز وجل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأنه لم يزل المتغلبون ومن لا يستحق الإمامة يقبضون الصدقات، فيعتد بها.
والثاني: قال: والمذهب: أنها لا تسقط عنه فيما بينه وبين الله في الباطن.
وإن كان الإمام عدلا يأخذ قدر الزكاة، ويضعها في مواضعها.. فإنه يأخذ الزكاة من المانع والغال ويعذره على ذلك، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك، وأحمد: (تؤخذ من الزكاة وشطر ماله). وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم. والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة». ولم يفرق بين أن يغلَّ أو لا يغلَّ.

.[فرع: جواز توكيل الساعي من يقبض الزكاة]

فإذا بلغ الساعي إلى الموضع الذي قصده، فإن كان حول رب المال قد تم: قبض منه الزكاة ودعا له على ما مضى وإن كان لم يتم حوله: سأله هل يختار تعجيلها؟ فإن فعل قبض منه، وإن لم يفعل.. وكل الساعي ثقة يقبض منه الزكاة عند حولها ويفرقها في أهلها، وإن رأى أن يكتبها عليه دينا؛ ليأخذها مع زكاة العام القابل.. جاز؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخر الزكاة عن الناس عام الرمادة).
وإن أراد أن يرجع في وقت حلولها ليقبضها.. فعل.
وإن اختلف رب المال والساعي.. نظرت:
فإن كان قول رب المال لا يخالف الظاهر، بأن قال الساعي: قد حال الحول على مالك، وقال رب المال: لم يحل عليه الحول، أو قال الساعي: كانت ماشيتك نصابا، ثم توالدت بعد النصاب، وقال رب المال: بل تمت نصابًا بتوالدها، أو قال الساعي: هذه السخال توالدت من غنمك، فهي في حولها، وقال رب المال: بل استفدتها من غيرها، وهي منفردة بالحول، أو قال الساعي: هذه السخال ولدت قبل الحول، وقال رب المال: بل ولدت بعد الحول.. فالقول قول رب المال في هذه المسائل مع يمينه، واليمين هاهنا مستحبة، فإن حلف.. سقطت عنه الزكاة، فإن نكل.. لم تجب عليه الزكاة؛ لأن قوله لا يخالف الظاهر، والزكاة مبنية على الرفق والمواساة، فلو أوجبنا فيها اليمين.. خرجت عن حد المواساة.
وإن كان قول رب المال يخالف الظاهر، مثل: أن يقول له الساعي: قد مضى على مالك حول، فقال رب المال: كنت قد بعته في أثناء الحول، ثم اشتريته، أو قال: قد أخرجت عنه الزكاة، وقلنا: يجوز له أن يفرق بنفسه.. فالقول قول رب المال مع يمينه، وهل تجب اليمين هاهنا، أو تستحب؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها مستحبة؛ لأنها لو كانت واجبة عليه إذا كان قوله يخالف الظاهر.. لوجبت عليه وإن كان قوله لا يخالف الظاهر، كالمودع.
فعلى هذا: لا تجب عليه الزكاة، حلف أو لم يحلف.
والثانيٍ: أن اليمين واجبة عليه؛ لأن قوله يخالف الظاهر.
فعلى هذا: إن حلف.. سقطت عنه الزكاة، وإن لم يحلف.. أُخذت منه الزكاة لا بنكوله، ولكن بالوجوب المتقدم.
وإن قال رب المال: هذا المال الذي في يدي وديعة، وقال الساعي: بل هو مالك... ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أن دعوى رب المال هاهنا تخالف الظاهر، فيحلف، وهل تستحب يمينه أو تجب؟ فيه وجهان.
والثاني: أن قوله لا يخالف الظاهر، فيستحب أن يحلف؛ لأن ما في يده قد يكون له، وقد يكون لغيره. والأول أصح؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه.

.[فرع: متى يسم الساعي الصدقة]

إذا قبض الساعي الماشية في الزكاة، ولم يؤذن له في تفريقها في الحال... فالمستحب له أن يسمها.
وقال أبو حنيفة: (يكره وسمها).
دليلنا: ما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسم إبل الصدقة» ولأنها تتميز بذلك.
إذا ثبت هذا: فموضع وسم الإبل والبقر في أفخاذها، وموضع وسم الغنم في آذانها؛ لأنه موضع يقل فيه الشعر، ويخف فيه الألم، فيكتب في ماشية الزكاة: زكاة، أو صدقة، وفي ماشية الجزية: جزية، أو صغار؛ لأن ذلك أسهل ما يمكن.
وإن أذن الإمام للساعي في تفرقتها... فرَّقها على أهلها، ولا يجوز له بيعها؛ لأن أهل الزكاة أهل رشد، إذ لا ولاية عليهم، فلم يجز بيع مالهم بغير إذنهم.
فإن قبض نصف شاة، ولم يمكن نقلها... باع ذلك.
وهكذا: إن وقف عليه شيء من الماشية، أو خاف أن تؤخذ منه قبل أن يوصلها إلى أهلها، أو إلى الإمام... جاز له بيعها، ويوصل الثمن؛ لأن ذلك موضع ضرورة.
وإن تلف في يده شيء منها... نظرت:
فإن كان بغير تفريط منه... لم يجب عليه ضمانه، كالوكيل إذا تلف في يده مال موكله بغير تفريط.
وإن كان بتفريط بأن قصر في حفظها، أو عرف أهلها، أو أمكنه التفرقة عليهم، فأخر ذلك من غير عذر... ضمن؛ لأنه فرط في ذلك.
وإن لم يبعث الإمام لقبض زكاة الأموال الظاهرة من غير عذر، فإن قلنا: بقوله الجديد: (أن لرب المال أن يفرق زكاتها)... وجب عليه إيصال ذلك إلى أهله، وإن أخر حتى تلف المال ضمن الزكاة. وإن قلنا: بقوله القديم: (وأنه يجب دفعها إلى الإمام)... ففيه وجهان:
أحدهما: وهو المنصوص -: (أنه يلزمه تفرقتها)؛ لأن ذلك حق وجب صرفه إلى المساكين، والإمام نائب عنهم، فإذا ترك النائب... لم يترك من عليه الحق، كالدين.
والثاني: لا يجوز له تفرقتها؛ لأن ذلك مال للإمام فيه حق القبض... فلم يجز لغيره تفرقته، كالجزية والخراج.